فصل: باب مَنْ دَخَلَ لِيَؤُمَّ النَّاسَ فَجَاءَ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ فَتَأَخَّرَ الْأَوَّلُ أَوْ لَمْ يَتَأَخَّرْ جَازَتْ صَلَاتُهُ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب مَنْ دَخَلَ لِيَؤُمَّ النَّاسَ فَجَاءَ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ فَتَأَخَّرَ الْأَوَّلُ أَوْ لَمْ يَتَأَخَّرْ جَازَتْ صَلَاتُهُ

فِيهِ عَائِشَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من دخل‏)‏ أي إلى المحراب مثلا ‏(‏ليؤم الناس فجاء الإمام الأول‏)‏ أي الراتب ‏(‏فتأخر الأول‏)‏ أي الداخل فكل منهما أول باعتبار، والمعرفة إذا أعيدت كانت عين الأولى إلا بقرينة، وقرينة كونها غيرها هنا ظاهرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فيه عائشة‏)‏ يشير بالشق الأول وهو ما إذا تأخر إلى رواية عروة عنها في الباب الذي قبله حيث قال ‏"‏ فلما رآه استأخر ‏"‏ وبالثاني وهو ما إذا لم يستأخر إلى رواية عبد الله عنها حيث قال ‏"‏ فأراد أن يتأخر ‏"‏ وقد تقدمت في ‏"‏ باب حد المريض ‏"‏ والجواز مستفاد من التقرير، وكلا الأمرين قد وقعا في حديث الباب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ فَحَانَتْ الصَّلَاةُ فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ أَتُصَلِّي لِلنَّاسِ فَأُقِيمَ قَالَ نَعَمْ فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ فِي الصَّلَاةِ فَتَخَلَّصَ حَتَّى وَقَفَ فِي الصَّفِّ فَصَفَّقَ النَّاسُ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لَا يَلْتَفِتُ فِي صَلَاتِهِ فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ التَّصْفِيقَ الْتَفَتَ فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ امْكُثْ مَكَانَكَ فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ اسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى اسْتَوَى فِي الصَّفِّ وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ إِذْ أَمَرْتُكَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لِي رَأَيْتُكُمْ أَكْثَرْتُمْ التَّصْفِيقَ مَنْ رَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ الْتُفِتَ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن سهل بن سعد‏)‏ في رواية النسائي من طريق سفيان عن أبي حازم ‏"‏ سمعت سهلا‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ذهب إلى بني عمرو بن عوف‏)‏ أي ابن مالك بن الأوس، والأوس أحد قبيلتي الأنصار وما الأوس والخزرج، وبنو عمرو بن عوف بطن كبير من الأوس فيه عدة أحياء كانت منازلهم بقباء، منهم بنو أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف وبنو ضبيعة بن زيد وبنو ثعلبة بن عمرو بن عوف، والسبب في ذهابه صلى الله عليه وسلم إليهم ما في رواية سفيان المذكورة قال ‏"‏ وقع بين حيين من الأنصار كلام ‏"‏ وللمؤلف في الصلح من طريق محمد بن جعفر عن أبي حازم ‏"‏ أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال‏:‏ اذهبوا بنا نصلح بينهم ‏"‏ وله فيه من رواية أبي غسان عن أبي حازم ‏"‏ فخرج في أناس من أصحابه ‏"‏ وسمي الطبراني منهم من طريق موسى بن محمد عن أبي حازم أبي بن كعب وسهيل بن بيضاء، وللمؤلف في الأحكام من طريق حماد بن زيد عن أبي حازم أن توجهه كان بعد أن صلى الظهر، وللطبراني من طريق عمر بن علي عن أبي حازم أن الخبر جاء بذلك وقد أذن بلال لصلاة الظهر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فحانت الصلاة‏)‏ أي صلاة العصر، وصرح به في الأحكام ولفظه ‏"‏ فلما حضرت صلاة العصر أذن وأقام وأمر أبا بكر فتقدم ‏"‏ ولم يسم فاعل ذلك، وقد أخرجه أحمد وأبو داود وابن حبان من رواية حماد المذكورة فبين الفاعل وأن ذلك كان بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظه ‏"‏ فقال لبلال إن حضرت العصر ولم آتك فمر أبا بكر فليصل بالناس، فلما حضرت العصر أذن بلال ثم أقام ثم أمر أبا بكر فتقدم ‏"‏ ونحوه للطبراني من رواية موسى بن محمد عن أبي حازم، وعرف بهذا أن المؤذن بلال‏.‏

وأما قوله لأبي بكر ‏"‏ أتصلي للناس ‏"‏ فلا يخالف ما ذكر لأنه يحمل على أنه استفهمه هل يبادر أول الوقت أو ينتظر قليلا ليأتي النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏ ورجح عند أبي بكر المبادرة لأنها فضيلة متحققة فلا تترك لفضيلة متوهمة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أقيم‏)‏ بالنصب ويجوز الرفع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال نعم‏)‏ زاد في رواية عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه ‏"‏ إن شئت ‏"‏ وهو في ‏"‏ باب رفع الأيدي ‏"‏ عند المؤلف، وإنما فوض ذلك له لاحتمال أن يكون عنده زيادة علم من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فصلى أبو بكر‏)‏ أي دخل في الصلاة، ولفظ عبد العزيز المذكور ‏"‏ وتقدم أبو بكر فكبر ‏"‏ وفي رواية المسعودي عن أبي حازم ‏"‏ فاستفتح أبو بكر الصلاة ‏"‏ وهي عند الطبراني، وبهذا يجاب عن الفرق بين المقامين حيث امتنع أبو بكر هنا أن يستمر إماما وحيث استمر في مرض موته صلى الله عليه وسلم حين صلى خلفه الركعة الثانية من الصبح كما صرح به موسى بن عقبة في المغازي، فكأنه لما أن مضى معظم الصلاة حسن الاستمرار ولما أن لم يمض منها إلا اليسير لم يستمر‏.‏

وكذا وقع لعبد الرحمن بن عوف حيث صلى النبي صلى الله عليه وسلم خلفه الركعة الثانية من الصبح فإنه استمر في صلاته إماما لهذا المعنى، وقصة عبد الرحمن عند مسلم من حديث المغيرة بن شعبة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فتخلص‏)‏ في رواية عبد العزيز ‏"‏ فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يمشي في الصفوف يشقها شقا حتى قام في الصف الأول ‏"‏ ولمسلم ‏"‏ فخرق الصفوف حتى قام عند الصف المتقدم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فصفق الناس‏)‏ في رواية عبد العزيز ‏"‏ فأخذ الناس في التصفيح‏.‏

قال سهل‏:‏ أتدرون ما التصفيح‏؟‏ هو التصفيق‏"‏‏.‏

انتهى‏.‏

وهذا يدل على ترادفهما عنده فلا يلتفت إلى ما يخالف ذلك، وسيأتي البحث فيه في باب مفرد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان أبو بكر لا يلتفت‏)‏ قيل كان ذلك لعلمه بالنهي عن ذلك، وقد صح أنه اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد كما سيأتي في باب مفرد في صفة الصلاة ‏"‏ فلما أكثر الناس التصفيق ‏"‏ في رواية حماد بن زيد ‏"‏ فلما رأى التصفيح لا يمسك عنه التفت‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأشار إليه أن امكث مكانك‏)‏ في رواية عبد العزيز ‏"‏ فأشار إليه يأمره أن يصلي ‏"‏ وفي رواية عمر بن علي ‏"‏ فدفع في صدره ليتقدم فأبى‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فرفع أبو بكر يديه فحمد الله‏)‏ ظاهره أنه تلفظ بالحمد، لكن في رواية الحميدي عن سفيان ‏"‏ فرفع أبو بكر رأسه إلى السماء شكرا لله ورجع القهقري ‏"‏ وادعى ابن الجوزي أنه أشار بالشكر والحمد بيده ولم يتكلم، وليس في رواية الحميدي ما يمنع أن يكون تلفظ، ويقوى ذلك ما عند أحمد من رواية عبد العزيز الماجشون عن أبي حازم ‏"‏ يا أبا بكر لم رفعت يديك وما منعك أن تثبت حين أشرت إليك‏؟‏ قال‏:‏ رفعت يدي لأني حمدت الله على ما رأيت منك ‏"‏ زاد المسعودي ‏"‏ فلما تنحى تقدم النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ونحوه في رواية حماد بن زيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ في رواية الحمادين والماجشون ‏"‏ أن يؤم النبي صلى الله عليه وسلم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أكثرتم التصفيق‏)‏ ظاهره أن الإنكار إنما حصل عليهم لكثرته لا لمطلقه، وسيأتي البحث فيه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من نابه‏)‏ أي أصابه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فليسبح‏)‏ في رواية يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم ‏"‏ فليقل سبحان الله ‏"‏ وسيأتي في باب الإشارة في الصلاة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏التفت إليه‏)‏ بضم المثناة على البناء للمجهول‏.‏

وفي رواية يعقوب المذكورة ‏"‏ فإنه لا يسمعه أحد حين يقول سبحان الله إلا التفت‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإنما التصفيق للنساء‏)‏ في رواية عبد العزيز ‏"‏ وإنما التصفيح للنساء ‏"‏ زاد الحميدي ‏"‏ والتسبيح للرجال ‏"‏ وقد روى المصنف هذه الجملة الأخيرة مقتصرا عليها من رواية الثوري عن أبي حازم كما سيأتي في ‏"‏ باب التصفيق للنساء ‏"‏ ووقع في رواية حماد بن زيد بصيغة الأمر ولفظه ‏"‏ إذا نابكم أمر فليسبح الرجال وليصفح النساء‏"‏‏.‏

وفي هذا الحديث فضل الإصلاح بين الناس وجمع كلمة القبيلة وحسم مادة القطيعة، وتوجه الإمام بنفسه إلى بعض رعيته لذلك، وتقديم مثل ذلك على مصلحة الإمامة بنفسه‏.‏

واستنبط منه توجه الحاكم لسماع دعوى بعض الخصوم إذا رجح ذلك على استحضارهم‏.‏

وفيه جواز الصلاة الواحدة بإمامين أحدهما بعد الآخر، وأن الإمام الراتب إذا غاب يستخلف غيره، وأنه إذا حضر بعد أن دخل نائبه في الصلاة يتخير بين أن يأتم به أو يؤم هو ويصير النائب مأموما من غير أن يقطع الصلاة، ولا يبطل شيء من ذلك صلاة أحد من المأمومين‏.‏

وادعى ابن عبد البر أن ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وادعى الإجماع على عدم جواز ذلك لغيره صلى الله عليه وسلم، ونوقض بأن الخلاف ثابت، فالصحيح المشهور عند الشافعية الجواز، وعن ابن القاسم في الإمام يحدث فيستخلف ثم يرجع فيخرج المستخلف ويتم الأول أن الصلاة صحيحة، وفيه جواز إحرام المأموم قبل الإمام، وأن المرء قد يكون في بعض صلاته إماما وفي بعضها مأموما، وأن من أحرم منفردا ثم أقيمت الصلاة جاز له الدخول مع الجماعة من غير قطع لصلاته، كذا استنبطه الطبري من هذه القصة، وهو مأخوذ من لازم جواز إحرام الإمام بعد المأموم كما ذكرنا، وفيه فضل أبي بكر على جميع الصحابة‏.‏

واستدل به جمع من الشراح ومن الفقهاء كالروياني على أن أبا بكر كان عند الصحابة أفضلهم لكونهم اختاروه دون غيره، وعلى جواز تقديم الناس لأنفسهم إذا غاب إمامهم، قالوا‏:‏ ومحل ذلك إذا أمنت الفتنة والإنكار من الإمام، وأن الذي يتقدم نيابة عن الإمام يكون أصلحهم لذلك الأمر وأقومهم به، وأن المؤذن وغيره يعرض التقدم على الفاضل وأن الفاضل يوافقه بعد أن يعلم أن ذلك برضا الجماعة ا هـ‏.‏

وكل ذلك مبني على أن الصحابة فعلوا ذلك بالاجتهاد، وقد قدمنا أنهم إنما فعلوا ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه أن الإقامة واستدعاء الإمام من وظيفة المؤذن، وأنه لا يقيم إلا بإذن الإمام، وأن فعل الصلاة - لا سيما العصر - في أول الوقت مقدم على انتظار الإمام الأفضل، وفيه جواز التسبيح والحمد في الصلاة لأنه من ذكر الله ولو كان مراد المسبح إعلام غيره بما صدر منه، وسيأتي في باب مفرد، وفيه رفع اليدين في الصلاة عند الدعاء والثناء وسيأتي كذلك، وفيه استحباب حمد الله لمن تجددت له نعمة ولو كان في الصلاة، وفيه جواز الالتفات للحاجة وأن مخاطبة المصلي بالإشارة أولى من مخاطبته بالعبارة‏.‏

وأنها تقوم مقام النطق لمعاتبة النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على مخالفة إشارته‏.‏

وفيه جواز شق الصفوف والمشي بين المصلين لقصد الوصول إلى الصف الأول لكنه مقصور على من يليق ذلك به كالإمام أو من كان بصدد أن يحتاج الإمام إلى استخلافه أو من أراد سد فرجة في الصف الأول أو ما يليه مع ترك من يليه سدها ولا يكون ذلك معدودا من الأذى‏.‏

قال المهلب‏:‏ لا تعارض بين هذا وبين النهي عن التخطي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس كغيره في أمر الصلاة ولا غيرها، لأن له أن يتقدم بسبب ما ينزل عليه من الأحكام، وأطال في تقرير ذلك‏.‏

وتعقب بأن هذا ليس من الخصائص، وقد أشار هو إلى المعتمد في ذلك فقال‏:‏ ليس في ذلك شيء من الأذى والجفاء الذي يحصل من التخطي، وليس كمن شق الصفوف والناس جلوس لما فيه من تخطي رقابهم‏.‏

وفيه كراهية التصفيق في الصلاة وسيأتي في باب مفرد، وفيه الحمد والشكر على الوجاهة في الدين وأن من أكرم بكرامة يتخير بين القبول والترك إذا فهم أن ذلك الأمر على غير جهة اللزوم وكأن القرينة التي بينت لأبي بكر ذلك هي كونه صلى الله عليه وسلم شق الصفوف إلى أن انتهى إليه فكأنه فهم من ذلك أن مراده أن يؤم الناس، وأن أمره إياه بالاستمرار في الإمامة من باب الإكرام له والتنويه بقدره، فسلك هو طريق الأدب والتواضع‏.‏

ورجح ذلك عنده احتمال نزول الوحي في حال الصلاة لتغيير حكم من أحكامها، وكأنه لأجل هذا لم يتعقب صلى الله عليه وسلم اعتذاره برد عليه‏.‏

وفيه جواز إمامة المفضول للفاضل، وفيه سؤال الرئيس عن سبب مخالفة أمره قبل الزجر عن ذلك، وفيه إكرام الكبير بمخاطبته بالكنية، واعتماد ذكر الرجل لنفسه بما يشعر بالتواضع من جهة استعمال أبي بكر خطاب الغيبة مكان الحضور‏.‏

إذ كان حد الكلام أن يقول أبو بكر‏:‏ ما كان لي، فعدل عنه إلى قوله‏:‏ ما كان لابن أبي قحافة، لأنه أدل على التواضع من الأول، وفيه جواز العمل القليل في الصلاة لتأخر أبي بكر عن مقامه إلى الصف الذي يليه، وأن من احتاج إلى مثل ذلك يرجع القهقري ولا يستدبر القبلة ولا ينحرف عنها‏.‏

واستنبط ابن عبد البر منه جواز الفتح على الإمام، لأن التسبيح إذا جاز جازت التلاوة من باب الأولى، والله أعلم‏.‏

*3*باب إِذَا اسْتَوَوْا فِي الْقِرَاءَةِ فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْبَرُهُمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إذا استووا في القراءة فليؤمهم أكبرهم‏)‏ هذه الترجمة مع ما سأبينه من زيادة في بعض طرق حديث الباب منتزعة من حديث أخرجه مسلم من رواية أبي مسعود الأنصاري مرفوعا ‏"‏ يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانت قراءتهم سواء صلى الله عليه وسلم فليؤمهم أقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم سنا ‏"‏ الحديث‏.‏

ومداره على إسماعيل بن رجاء عن أوس ضمعج عنه، وليسا جميعا من شرط البخاري، وقد نقل ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه أن شعبة كان يتوقف في صحة هذا الحديث، ولكن هو في الجملة يصلح للاحتجاج به عند البخاري، وقد علق منه طرفا بصيغة الجزم كما سيأتي، واستعمله هنا في الترجمة، وأورد في الباب ما يؤدي معناه وهو حديث مالك بن الحويرث لكن ليس فيه التصريح باستواء المخاطبين في القراءة، وأجاب الزين بن المنير وغيره بما حاصله أن تساوى هجرتهم وإقامتهم وغرضهم بها مع ما في الشباب غالبا من الفهم - ثم توجه الخطاب إليهم بأن يعلموا من وراءهم من غير تخصيص بعضهم دون بعض - دال على استوائهم في القراءة والتفقه في الدين‏.‏

قلت‏:‏ وقد وقع التصريح بذلك فيما رواه أبو داود من طريق مسلمة بن محمد عن خالد الحذاء عن أبي قلابة في هذا الحديث قال ‏"‏ وكنا يومئذ متقاربين في العلم ‏"‏ انتهى‏.‏

وأظن في هذه الرواية إدراجا، فإن ابن خزيمة رواه من طريق إسماعيل بن علية عن خالد قال ‏"‏ قلت لأبي قلابة فأين القراءة‏؟‏ قال‏:‏ إنهما كانا متقاربين ‏"‏ وأخرجه مسلم من طريق حفص بن غياث عن خالد الحذاء وقال فيه ‏"‏ قال الحذاء‏:‏ وكانا متقاربين في القراءة‏"‏‏.‏

ويحتمل أن يكون مستند أبي قلابة في ذلك هو إخبار مالك بن الحويرث، كما أن مستند الحذاء هو إخبار أبي قلابة له به فينبغي الإدراج عن الإسناد صلى الله عليه وسلم والله أعلم‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ ضمعج والد أوس بفتح الضاد المعجمة وسكون الميم وفتح العين المهملة بعدها جيم معناه الغليظ، وقوله في حديث أبي مسعود ‏"‏ أقرؤهم ‏"‏ قيل المراد به الأفقه وقيل هو على ظاهره، وبحسب ذلك اختلف الفقهاء‏.‏

قال النووي قال أصحابنا‏:‏ الأفقه مقدم على الأقرأ، فإن الذي يحتاج إليه من القراءة مضبوط والذي يحتاج إليه من الفقه غير مضبوط، فقد يعرض في الصلاة أمر لا يقدر على مراعاة الصلاة فيه إلا كامل الفقه، ولهذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر في الصلاة على الباقين مع أنه صلى الله عليه وسلم نص على أن غيره أقرأ منه، كأنه عنى حديث أقرؤكم أبي‏.‏

قال‏:‏ وأجابوا عن الحديث بأن الأقرأ من الصحابة كان هو الأفقه‏.‏

قلت‏:‏ وهذا الجواب يلزم منه أن من نص النبي صلى الله عليه وسلم على أنه أقرأ من أبي بكر كان أفقه من أبي بكر فيفسد الاحتجاج بأن تقديم أبي بكر كان لأنه الأفقه‏.‏

ثم قال النووي بعد ذلك‏:‏ إن قوله في حديث أبي مسعود ‏"‏ فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم في الهجرة ‏"‏ يدل على تقديم الأقرأ مطلقا انتهى‏.‏

وهو واضح للمغايرة‏.‏

وهذه الرواية أخرجها مسلم أيضا من وجه آخر عن إسماعيل بن رجاء، ولا يخفى أن محل تقديم الأقرأ إنما هو حيث يكون عارفا بما يتعين معرفته من أحوال الصلاة، فأما إذا كان جاهلا بذلك فلا يقدم اتفاقا، والسبب فيه أن أهل ذلك العصر كانوا يعرفون معاني القرآن لكونهم أهل اللسان، فالأقرأ منهم بل القارئ كان أفقه في الدين من كثير من الفقهاء الذين جاءوا بعدهم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ فَلَبِثْنَا عِنْدَهُ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحِيمًا فَقَالَ لَوْ رَجَعْتُمْ إِلَى بِلَادِكُمْ فَعَلَّمْتُمُوهُمْ مُرُوهُمْ فَلْيُصَلُّوا صَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا وَصَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا وَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏ونحن شببة‏)‏ بفتح المعجمة والموحدتين جمع شاب، زاد في الأدب من طريق ابن علية عن أيوب ‏"‏ شببة متقاربون ‏"‏ والمراد تقاربهم في السن، لأن ذلك كان في حال قدومهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نحوا من عشرين‏)‏ في رواية ابن علية المذكورة الجزم به ولفظه ‏"‏ فأقمنا عنده عشرين ليلة ‏"‏ والمراد بأيامها، ووقع التصريح بذلك في روايته في خبر الواحد من طريق عبد الوهاب عن أيوب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رحيما فقال لو رجعتم‏)‏ في رواية ابن علية وعبد الوهاب ‏"‏ رحيما رقيقا ‏"‏ فظن أنا اشتقنا إلى أهلنا، وسألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه فقال‏:‏ ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم‏"‏، ويمكن الجمع بينهما بأن يكون عرض ذلك عليهم على طريق الإيناس بقوله ‏"‏ لو رجعتم ‏"‏ إذ لو بدأهم بالأمر بالرجوع لأمكن أن يكون فيه تنفير فيحتمل أن يكونوا أجابوه بنعم فأمرهم حينئذ بقوله ‏"‏ ارجعوا‏"‏، واقتصار الصحابي على ذكر سبب الأمر برجوعهم بأنه الشوق إلى أهليهم دون قصد التعليم هو لما قام عنده من القرينة الدالة على ذلك، ويمكن أن يكون عرف ذلك بتصريح القول منه صلى الله عليه وسلم وإن كان سبب تعليمهم قومهم أشرف في حقهم، لكنه أخبر بالواقع ولم يتزين بما ليس فيهم، ولما كانت نيتهم صادقة صادف شوقهم إلى أهلهم الحظ الكامل في الدين وهو أهلية التعليم كما قال الإمام أحمد في الحرص على طلب الحديث‏:‏ حظ وافق حقا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وليؤمكم أكبركم‏)‏ ظاهره تقديم الأكبر بكثير السن وقليله، وأما من جوز أن يكون مراده بالكبر ما هو أعم من السن أو القدر كالتقدم في الفقه والقراءة والدين فبعيد لما تقدم من فهم راوي الخبر حيث قال للتابعي ‏"‏ فأين القراءة ‏"‏ فإنه دال على أنه أراد كبر السن، وكذا دعوى من زعم أن قوله ‏"‏ وليؤمكم أكبركم ‏"‏ معارض بقوله ‏"‏ يؤم القوم أقرؤهم ‏"‏ لأن الأول يقتضي تقديم الأكبر على الأقرأ والثاني عكسه، ثم انفصل عنه بأن قصة مالك بن الحويرث واقعة عين قابلة للاحتمال بخلاف الحديث الآخر فإنه تقرير قاعدة تفيد التعميم، قال‏:‏ فيحتمل أن يكون الأكبر منهم كان يومئذ هو الأفقه‏.‏

انتهى‏.‏

والتنصيص على تقاربهم في العلم يرد عليه، فالجمع الذي قدمناه أولى والله أعلم‏.‏

وفي الحديث أيضا فضل الهجرة والرحلة في طلب العلم وفضل التعليم، وما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشفقة والاهتمام بأحوال الصلاة وغيرها من أمور الدين، وإجازة خبر الواحد وقيام الحجة به، وتقدم الكلام على بقية فوائده في ‏"‏ باب من قال يؤذن في السفر مؤذن واحد‏"‏‏.‏

ويأتي الكلام على قوله صلوا كما رأيتموني أصلي في ‏"‏ باب إجازة خبر الواحد ‏"‏ إن شاء الله تعـالى‏.‏

*3*باب إِذَا زَارَ الْإِمَامُ قَوْمًا فَأَمَّهُمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إذا زار الإمام قوما فأمهم‏)‏ قيل أشار بهذه الترجمة إلى أن حديث مالك بن الحويرث الذي أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه مرفوعا ‏"‏ من زار قوما فلا يؤمهم، وليؤمهم رجل منهم ‏"‏ محمول على من عدا الإمام الأعظم‏.‏

وقال الزين بن المنير‏:‏ مراده أن الإمام الأعظم ومن يجري مجراه إذا حضر بمكان مملوك لا يتقدم عليه مالك الدار أو المنفعة، ولكن ينبغي للمالك أن يأذن له ليجمع بين الحقين حق الإمام في التقدم، وحق المالك في منع التصرف بغير إذنه‏.‏

انتهى ملخصا‏.‏

ويحتمل أنه أشار إلى ما في حديث أبي مسعود المتقدم ‏"‏ ولا يؤم الرجل في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه ‏"‏ فإن مالك الشيء سلطان عليه، والإمام الأعظم سلطان على المالك، وقوله ‏"‏إلا بإذنه ‏"‏ يحمل عوده على الأمرين الإمامة والجلوس، وبذلك جزم أحمد كما حكاه الترمذي عنه، فتحصل بالإذن مراعاة الجانبين‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ قَالَ سَمِعْتُ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الْأَنْصارِيَّ قَالَ اسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذِنْتُ لَهُ فَقَالَ أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أُحِبُّ فَقَامَ وَصَفَفْنَا خَلْفَهُ ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمْنَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا معاذ بن أسد‏)‏ هو مروزي سكن البصرة وليس هو أخا لمعلى بن أسد أحد شيوخ البخاري أيضا، كان معاذ المذكور كاتبا لعبد الله بن المبارك وهو شيخه في هذا الإسناد، وقد تقدم الكلام على حديث عتبان مستوفى في ‏"‏ باب المساجد التي في البيوت‏"‏‏.‏

*3*باب إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ

وَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ بِالنَّاسِ وَهُوَ جَالِسٌ

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ إِذَا رَفَعَ قَبْلَ الْإِمَامِ يَعُودُ فَيَمْكُثُ بِقَدْرِ مَا رَفَعَ ثُمَّ يَتْبَعُ الْإِمَامَ وَقَالَ الْحَسَنُ فِيمَنْ يَرْكَعُ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَتَيْنِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى السُّجُودِ يَسْجُدُ لِلرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ يَقْضِي الرَّكْعَةَ الْأُولَى بِسُجُودِهَا وَفِيمَنْ نَسِيَ سَجْدَةً حَتَّى قَامَ يَسْجُدُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إنما جعل الإمام ليؤتم به‏)‏ هذه الترجمة قطعة من الحديث الآتي في الباب، والمراد بها أن الائتمام يقتضي متابعة المأموم لإمامه في أحوال الصلاة، فتنتفي المقارنة والمسابقة والمخالفة إلا ما دل الدليل الشرعي عليه، ولهذا صدر المصنف الباب بقوله ‏"‏ وصلى النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه وهو جالس، أي والناس خلفه قياما ولم يأمرهم بالجلوس كما سيأتي، فدل على دخول التخصيص في عموم قوله ‏"‏ إنما جعل الإمام ليؤتم به‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن مسعود الخ‏)‏ وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح وسياقه أتم ولفظه ‏"‏ لا تبادروا‏.‏

أئمتكم بالركوع ولا بالسجود، وإذا رفع أحدكم رأسه والإمام ساجد فليسجد، ثم ليمكث قدر ما سبقه به الإمام ‏"‏ انتهى‏.‏

وكأنه أخذه من قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏إنما جعل الإمام ليؤتم به ‏"‏ ومن قوله ‏"‏ وما فاتكم فأتموا‏"‏‏.‏

وروى عبد الرزاق عن عمر نحو قول ابن مسعود ولفظه ‏"‏ أيما رجل رفع رأسه قبل الإمام في ركوع أو سجود فليضع رأسه بقدر رفعه إياه ‏"‏ وإسناده صحيح، قال الزين بن المنير‏:‏ إذا كان الرافع المذكور يؤمر عنده بقضاء القدر الذي خرج فيه عن الإمام فأولى أن يتبعه في جملة السجود فلا يسجد حتى يسجد، وظهرت بهذا مناسبة هذا الأثر للترجمة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال الحسن الخ‏)‏ فيه فرعان‏:‏ أما الفرع الأول فوصله ابن المنذر في كتابه الكبير ورواه سعيد بن منصور عن هشم عن يونس عن الحسن ولفظه ‏"‏ في الرجل يركع يوم الجمعة فيزحمه الناس فلا يقدر على السجود - قال - فإذا فرغوا من صلاتهم سجد سجدتين لركعته الأولى ثم يقوم فيصلي ركعة وسجدتين ‏"‏ ومقتضاه أن الإمام لا يتحمل الأركان، فمن لم يقدر على السجود معه لم تصح له الركعة، ومناسبته للترجمة من جهة أن المأموم لو كان له أن ينفرد عن الإمام لم يستمر متابعا في صلاته التي اختل بعض أركانها حتى يحتاج إلى تداركه بعد فراغ الإمام‏.‏

وأما الفرع الثاني فوصله ابن أبي شيبة وسياقه أتم ولفظه ‏"‏ في رجل نسي سجدة من أول صلاته فلم يذكرها حتى كان آخر ركعة من صلاته - قال - يسجد ثلاث سجدات، فإن ذكرها قبل السلام يسجد سجدة واحدة، وإن ذكرها بعد انقضاء الصلاة يستأنف الصلاة ‏"‏ وقد تقدم الكلام على حديث عائشة الأول في ‏"‏ باب حد المريض أن يشهد الجماعة ‏"‏ وقد ذكرنا مناسبته للترجمة قبل، وقوله فيه ‏"‏ ضعوني ماء ‏"‏ كذا للمستملي والسرخسي بالنون وللباقين ‏"‏ ضعوا لي ‏"‏ وهو أوجه، وكذلك أخرجه مسلم عن أحمد بن يونس شيخ البخاري فيه، والأول كما قال الكرماني محمول على تضمين الوضع معنى الإعطاء أو على نزع الخافض أي ضعوني في ماء‏.‏

والمخضب تقدم الكلام عليه في أبواب الوضوء، وأن الماء الذي اغتسل به كان من سبع قرب، وذكرت حكمة ذلك هناك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْتُ أَلَا تُحَدِّثِينِي عَنْ مَرَضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ بَلَى ثَقُلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَصَلَّى النَّاسُ قُلْنَا لَا هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ قَالَ ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ قَالَتْ فَفَعَلْنَا فَاغْتَسَلَ فَذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَلَّى النَّاسُ قُلْنَا لَا هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ قَالَتْ فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ أَصَلَّى النَّاسُ قُلْنَا لَا هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ أَصَلَّى النَّاسُ فَقُلْنَا لَا هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَام لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِأَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا يَا عُمَرُ صَلِّ بِالنَّاسِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الْأَيَّامَ ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا الْعَبَّاسُ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ لِيَتَأَخَّرَ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ لَا يَتَأَخَّرَ قَالَ أَجْلِسَانِي إِلَى جَنْبِهِ فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي وَهُوَ يَأْتَمُّ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَدَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ لَهُ أَلَا أَعْرِضُ عَلَيْكَ مَا حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ عَنْ مَرَضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَاتِ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَدِيثَهَا فَمَا أَنْكَرَ مِنْهُ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ أَسَمَّتْ لَكَ الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ مَعَ الْعَبَّاسِ قُلْتُ لَا قَالَ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏ذهب‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ ثم ذهب‏"‏‏.‏

‏(‏لينوء‏)‏ بضم النون بعدها مدة، أي لينهض بجهد قوله‏:‏ ‏(‏فأغمي عليه‏)‏ فيه أن الإغماء جائز على الأنبياء لأنه شبيه بالنوم، قال النووي‏:‏ جاز عليهم لأنه مرض من الأمراض بخلاف الجنون فلم يجز عليهم لأنه نقص‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ينتظرون النبي عليه السلام لصلاة العشاء‏)‏ كذا للأكثر بلام التعليل‏.‏

وفي رواية المستملي والسرخسي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لصلاة العشاء الآخرة‏"‏، وتوجيهه أن الراوي كأنه فسر الصلاة المسئول عنها في قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏أصلى الناس ‏"‏ فذكره، أي الصلاة المسئول عنها هي العشاء الآخرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فخرج بين رجلين‏)‏ كذا للكشميهني وللباقين ‏"‏ وخرج ‏"‏ بالواو‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لصلاة الظهر‏)‏ هو صريح في أن الصلاة المذكورة كانت الظهر، وزعم بعضهم أنها الصبح، واستدل بقوله في رواية أرقم بن شرحبيل عن ابن عباس ‏"‏ وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم القراءة من حيث بلغ أبو بكر ‏"‏ هذا لفظ ابن ماجه وإسناده حسن، لكن في الاستدلال به نظر لاحتمال أن يكون صلى الله عليه وسلم سمع لما قرب من أبي بكر الآية التي كان انتهى إليها خاصة، وقد كان هو صلى الله عليه وسلم يسمع الآية أحيانا في الصلاة السرية كما سيأتي من حديث أبي قتادة، ثم لو سلم لم يكن فيه دليل على أنها الصبح بل يحتمل أن تكون المغرب، فقد ثبت في الصحيحين عن أم الفضل بنت الحارث قالت ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالمرسلات عرفا، ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه الله ‏"‏ وهذا لفظ البخاري، وسيأتي في باب الوفاة من آخر المغازي، لكن وجدت بعد في النسائي أن هذه الصلاة التي ذكرتها أم الفضل كانت في بيته، وقد صرح الشافعي بأنه صلى الله عليه وسلم لم يصل بالناس في مرض موته في المسجد إلا مرة واحدة، وهي هذه التي صلى فيها قاعدا، وكان أبو بكر فيها أولا إماما ثم صار مأموما يسمع الناس التكبير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فجعل أبو بكر يصلي وهو قائم‏)‏ كذا للأكثر، وللمستملي والسرخسي ‏"‏ وهو يأتم ‏"‏ من الائتمام، واستدل بهذا الحديث على أن استخلاف الإمام الراتب إذا اشتكى أولى من صلاته بهم قاعدا، لأنه صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر ولم يصل بهم قاعدا غير مرة واحدة، واستدل به على صحة إمامة القاعد المعذور بمثله وبالقائم أيضا، وخالف في ذلك مالك في المشهور عنه ومحمد بن الحسن فيما حكاه الطحاوي، ونقل عنه أن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم واحتج بحديث جابر عن الشعبي مرفوعا ‏"‏ لا يؤمن أحد بعدي جالسا ‏"‏ واعترضه الشافعي فقال‏:‏ قد علم من احتج بهذا أن لا حجة فيه لأنه مرسل، ومن رواية رجل يرغب أهل العلم عن الرواية عنه يعني جابرا الجعفي‏.‏

وقال ابن بزيزة‏:‏ لو صح لم يكن فيه حجة لأنه يحتمل أن يكون المراد منع الصلاة بالجالس، أي يعرب قوله جالسا مفعولا لا حالا‏.‏

وحكى عياض عن بعض مشايخهم أن الحديث المذكور يدل على نسخ أمره المتقدم لهم بالجلوس لما صلوا خلفه قياما‏.‏

وتعقب بأن ذلك يحتاج لو صح إلى تاريخ، وهو لا يصح‏.‏

لكنه زعم أنه تقوى بأن الخلفاء الراشدين لم يفعله أحد منهم، قال‏:‏ والنسخ لا يثبت بعد النبي صلى الله عليه وسلم، لكن مواظبتهم على ترك ذلك تشهد لصحة الحديث المذكور‏.‏

وتعقب بأن عدم النقل لا يدل على عدم الوقوع، ثم لو سلم لا يلزم منه عدم الجواز لاحتمال أن يكونوا اكتفوا باستخلاف القادر على القيام للاتفاق على أن صلاة القاعد بالقائم مرجوحة بالنسبة إلى صلاة القائم بمثله، وهذا كاف في بيان سبب تركهم الإمامة من قعود، واحتج أيضا بأنه صلى الله عليه وسلم إنما صلى بهم قاعدا لأنه لا يصح التقدم بين يديه لنهي الله عن ذلك ولأن الأئمة شفعاء ولا يكون أحد شافعا له، وتعقب بصلاته صلى الله عليه وسلم خلف عبد الرحمن بن عوف، وهو ثابت بلا خلاف‏.‏

وصح أيضا أنه صلى خلف أبي بكر كما قدمناه‏.‏

والعجب أن عمدة مالك في منع إمامة القاعد قول ربيعة‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في تلك الصلاة مأموما خلف أبي بكر، وإنكاره أن يكون صلى الله عليه وسلم أم في مرض موته قاعدا كما حكاه عنه الشافعي في الأم، فكيف يدعي أصحابه عدم تصوير أنه صلى مأموما‏؟‏ وكأن حديث إمامته المذكور لما كان في غاية الصحة ولم يمكنهم رده سلكوا في الانتصار وجوها مختلفة، وقد تبين بصلاته خلف عبد الرحمن بن عوف أن المراد بمنع التقدم بين يديه في غير الإمامة، وأن المراد بكون الأئمة شفعاء أي في حق من يحتاج إلى الشفاعة‏.‏

ثم لو سلم أنه لا يجوز أن يؤمه أحد لم يدل ذلك على منع إمامة القاعد، وقد أم قاعدا جماعة من الصحابة بعده صلى الله عليه وسلم منهم أسيد بن حضير وجابر وقيس بن فهد وأنس بن مالك، والأسانيد عنهم بذلك صحيحة أخرجها عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وغيرهم، بل ادعى ابن حبان وغيره إجماع الصحابة على صحة إمامة القاعد كما سيأتي‏.‏

وقال أبو بكر بن العربي‏:‏ لا جواب لأصحابنا عن حديث مرض النبي صلى الله عليه وسلم يخلص عند السبك، واتباع السنة أولى، والتخصيص لا يثبت بالاحتمال‏.‏

قال‏:‏ إلا أني سمعت بعض الأشياخ يقول‏:‏ الحال أحد وجوه التخصيص، وحال النبي صلى الله عليه وسلم والتبرك به وعدم العوض عنه يقتضي الصلاة معه على أي حال كان عليها، وليس ذلك لغيره‏.‏

وأيضا فنقص صلاة القاعد عن القائم لا يتصور في حقه، ويتصور في حق غيره‏.‏

والجواب عن الأول رده بعموم قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏صلوا كما رأيتموني أصلي‏"‏، وعن الثاني بأن النقص إنما هو في حق القادر في النافلة، وأما المعذور في الفريضة فلا نقص في صلاته عن القائم، واستدل به على نسخ الأمر بصلاة المأموم قاعدا إذا صلى الإمام قاعدا لكونه صلى الله عليه وسلم أقر الصحابة على القيام خلفه وهو قاعد، هكذا قرره الشافعي، وكذا نقله المصنف في آخر الباب عن شيخه الحميدي وهو تلميذ الشافعي، وبذلك يقول أبو حنيفة وأبو يوسف والأوزاعي، وحكاه الوليد بن مسلم عن مالك، وأنكر أحمد نسخ الأمر المذكور بذلك وجمع بين الحديثين بتنزيلهما على حالتين‏:‏ إحداهما إذا ابتدأ الإمام الراتب الصلاة قاعدا لمرض يرجى برؤه فحينئذ يصلون خلفه قعودا، ثانيتهما إذا ابتدأ الإمام الراتب قائما لزم المأمومين أن يصلوا خلفه قياما سواء طرأ ما يقتضي صلاة إمامهم قاعدا أم لا كما في الأحاديث التي في مرض موت النبي صلى الله عليه وسلم، فإن تقريره لهم على القيام دل على أنه لا يلزمهم الجلوس في تلك الحالة لأن أبا بكر ابتدأ الصلاة بهم قائما وصلوا معه قياما، بخلاف الحالة الأولى فإنه صلى الله عليه وسلم ابتدأ الصلاة جالسا فلما صلوا خلفه قياما أنكر عليهم‏.‏

ويقوى هذا الجمع أن الأصل عدم النسخ، لا سيما وهو في هذه الحالة يستلزم دعوى النسخ مرتين، لأن الأصل في حكم القادر على القيام أن لا يصلي قاعدا، وقد نسخ إلى القعود في حق من صلى إمامه قاعدا، فدعوى نسخ القعود بعد ذلك تقتضي وقوع النسخ مرتين وهو بعيد، وأبعد منه ما تقدم عن نقل عياض فإنه يقتضي وقوع النسخ ثلاث مرات، وقد قال بقول أحمد جماعة من محدثي الشافعية كابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان، وأجابوا عن حديث الباب بأجوبة أخرى منها قول ابن خزيمة‏:‏ إن الأحاديث التي وردت بأمر المأموم أن يصلي قاعدا تبعا لإمامه لم يختلف في صحتها ولا في سياقها، وأما صلاته صلى الله عليه وسلم قاعدا فاختلف فيها هل كان إماما أو مأموما‏.‏

قال‏:‏ وما لم يختلف فيه لا ينبغي تركه لمختلف فيه‏.‏

وأجيب بدفع الاختلاف والحمل على أنه كان إماما مرة ومأموما أخرى‏.‏

ومنها أن بعضهم جمع بين القصتين بأن الأمر بالجلوس كان للندب، وتقريره قيامهم خلفه كان لبيان الجواز، فعلى هذا الأمر من أم قاعدا لعذر تخير من صلى خلفه بين القعود والقيام، والقعود أولى لثبوت الأمر بالائتمام والاتباع وكثرة الأحاديث الواردة في ذلك‏.‏

وأجاب ابن خزيمة عن استبعاد من استبعد ذلك بأن الأمر قد صدر من النبي صلى الله عليه وسلم بذلك واستمر عليه عمل الصحابة في حياته وبعده، فروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن قيس بن فهد بفتح القاف وسكون الهاء الأنصاري ‏"‏ أن إماما لهم اشتكى لهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ فكان يؤمنا وهو جالس ونحن جلوس‏"‏‏.‏

وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن أسيد بن حضير ‏"‏ أنه كان يؤم قومه، فاشتكى، فخرج إليهم بعد شكواه، فأمروه أن يصلي بهم فقال‏:‏ إني لا أستطيع أن أصلي قائما فاقعدوا، فصلى بهم قاعدا وهم قعود‏"‏‏.‏

وروى أبو داود من وجه آخر عن أسيد بن حضير أنه قال ‏"‏ يا رسول الله إن إمامنا مريض، قال‏:‏ إذا صلى قاعدا فصلوا قعودا ‏"‏ وفي إسناده انقطاع‏.‏

وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن جابر ‏"‏ أنه اشتكى، فحضرت الصلاة فصلى بهم جالسا وصلوا معه جلوسا ‏"‏ وعن أبي هريرة أنه أفتى بذلك وإسناده صحيح أيضا، وقد ألزم ابن المنذر من قال بأن الصحابي أعلم بتأويل ما روى بأن يقول بذلك لأن أبا هريرة وجابرا رويا الأمر المذكور، واستمرا على العمل به والفتيا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ويلزم ذلك من قال إن الصحابي إذا روى وعمل بخلافه أن العبرة بما عمل من باب الأولى لأنه هنا عمل بوفق ما روى‏.‏

وقد ادعى ابن حبان الإجماع على العمل به وكأنه أراد السكوت، لأنه حكاه عن أربعة من الصحابة الذين تقدم ذكرهم وقال‏:‏ إنه لا يحفظ عن أحد من الصحابة غيرهم القول بخلافه لا من طريق صحيح ولا ضعيف‏.‏

وكذا قال ابن حزم إنه لا يحفظ عن أحد من الصحابة خلاف ذلك، ثم نازع في ثبوت كون الصحابة صلوا خلفه صلى الله عليه وسلم وهو قاعد قياما غير أبي بكر، قال‏:‏ لأن ذلك لم يرد صريحا، وأطال في ذلك بما لا طائل فيه‏.‏

والذي ادعى نفيه قد أثبته الشافعي وقال‏:‏ إنه في رواية إبراهيم عن الأسود عن عائشة، ثم وجدته مصرحا به أيضا في مصنف عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عطاء فذكر الحديث ولفظه ‏"‏ فصلى النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا وجعل أبو بكر وراءه بينه وبين الناس وصلى الناس وراءه قياما ‏"‏ وهذا مرسل يعتضد بالرواية التي علقها الشافعي عن النخعي، وهذا هو الذي يقتضيه النظر، فإنهم ابتدؤوا الصلاة مع أبي بكر قياما بلا نزاع، فمن ادعى أنهم قعدوا بعد ذلك فعليه البيان‏.‏

ثم رأيت ابن حبان استدل على أنهم قعدوا بعد أن كانوا قياما بما رواه من طريق أبي الزبير عن جابر قال ‏"‏ اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع الناس تكبيره، قال فالتفت إلينا فرآنا قياما فأشار إلينا فقعدنا‏.‏

فلما سلم قال‏:‏ إن كدتم لتفعلون فعل فارس والروم، فلا تفعلوا ‏"‏ الحديث‏.‏

وهو حديث صحيح أخرجه مسلم، لكن ذلك لم يكن في مرض موته، وإنما كان ذلك حيث سقط عن الفرس كما في رواية أبي سفيان عن جابر أيضا قال ‏"‏ ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا بالمدينة فصرعه على جذع نخلة فانفكت قدمه ‏"‏ الحديث أخرجه أبو داود وابن خزيمة بإسناد صحيح، فلا حجة على هذا لما ادعاه، إلا أنه تمسك بقوله في رواية أبي الزبير ‏"‏ وأبو بكر يسمع الناس التكبير ‏"‏ وقال إن ذلك لم يكن إلا في مرض موته لأن صلاته في مرضه الأول كانت في مشربة عائشة ومعه نفر من أصحابه لا يحتاجون إلى من يسمعهم تكبيره بخلاف صلاته في مرض موته فإنها كانت في المسجد يجمع كثير من الصحابة فاحتاج أبو بكر أن يسمعهم التكبير‏.‏

انتهى‏.‏

ولا راحة له فيما تمسك به لأن إسماع التكبير في هذا لم يتابع أبا الزبير عليه أحد، وعلى تقدير أنه حفظه فلا مانع أن يسمعهم أبو بكر التكبير في تلك الحالة لأنه يحمل على أن صوته صلى الله عليه وسلم كان خفيا من الوجع، وكان من عادته أن يجهر بالتكبير فكان أبو بكر يجهر عنه بالتكبير لذلك‏.‏

ووراء ذلك كله أنه أمر محتمل لا يترك لأجله الخبر الصريح بأنهم صلوا قياما كما تقدم في مرسل عطاء وغيره، بل في مرسل عطاء أنهم استمروا قياما إلى أن انقضت الصلاة‏.‏

نعم وقع في مرسل عطاء المذكور متصلا به بعد قوله‏:‏ وصلى الناس وراءه قياما ‏"‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما صليتم إلا قعودا، فصلوا صلاة إمامكم ما كان، إن صلى قائما فصلوا قياما وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا ‏"‏ وهذه الزيادة تقوى ما قال ابن حبان أن هذه القصة كانت في مرض موت النبي صلى الله عليه وسلم، ويستفاد منها نسخ الأمر بوجوب صلاة المأمومين قعودا إذا صلى إمامهم قاعدا لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم في هذه المرة الأخيرة بالإعادة، لكن إذا نسخ الوجوب يبقى الجواز، والجواز لا ينافي الاستحباب فيحمل أمره الأخير بأن يصلوا قعودا على الاستحباب لأن الوجوب قد رفع بتقريره لهم وترك أمرهم بالإعادة‏.‏

هذا مقتضى الجمع بين الأدلة وبالله التوفيق والله أعلم‏.‏

وقد تقدم الكلام على باقي فوائد هذا الحديث في ‏"‏ باب حد المريض أن يشهد الجماعة‏"‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاكٍ فَصَلَّى جَالِسًا وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنْ اجْلِسُوا فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏في بيته‏)‏ أي في المشربة التي في حجرة عائشة كما بينه أبو سفيان عن جابر، وهو دال على أن تلك الصلاة لم تكن في المسجد، وكأنه صلى الله عليه وسلم عجز عن الصلاة بالناس في المسجد فكان يصلي في بيته بمن حضر، لكنه لم ينقل أنه استخلف، ومن ثم قال عياض‏:‏ أن الظاهر أنه صلى في حجرة عائشة وائتم به من حضر عنده ومن كان في المسجد، وهذا الذي قاله محتمل، ويحتمل أيضا أن يكون استخلف وإن لم ينقل، ويلزم على الأول صلاة الإمام أعلى من المأمومين ومذهب عياض خلافه، لكن له أن يقول محل المنع ما إذا لم يكن مع الإمام في مكانه العالي أحد وهنا كان معه بعض أصحابه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهو شاك‏)‏ بتخفيف الكاف بوزن قاض من الشكاية وهي المرض، وكان سبب ذلك ما في حديث أنس المذكور بعده أن سقط عن فرس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فصلى جالسًا‏)‏ قال عياض‏:‏ يحتمل أن يكون أصابه من السقطة رض في الأعضاء منعه من القيام‏.‏

قال‏:‏ وليس كذلك، وإنما كانت قدمه صلى الله عليه وسلم انفكت كما في رواية بشير بن المفضل عن حميد عن أنس الإسماعيلي، وكذا لأبي داود وابن خزيمة من رواية أبي سفيان عن جابر كما قدمناه‏.‏

وأما قوله في رواية الزهري عن أنس بن مالك ‏"‏ جحش شقه الأيمن ‏"‏ وفي رواية يزيد عن حميد عن أنس ‏"‏ جحش ساقه ‏"‏ أو ‏"‏ كتفه ‏"‏ كما تقدم في ‏"‏ باب الصلاة على السطوح ‏"‏ فلا ينافي ذلك كون قدمه انفكت لاحتمال وقوع الأمرين، وقد تقدم تفسير الجحش بأن الخدش والخدش قشر الجلد، ووقع عند المصنف في ‏"‏ باب يهوي بالتكبير ‏"‏ من رواية سفيان عن الزهري عن أنس قال سفيان‏:‏ حفظت من الزهري شقه الأيمن، فلما خرجنا قال ابن جريج‏:‏ ساقه الأيمن‏.‏

قلت‏:‏ ورواية ابن جريج أخرجها عبد الرزاق عنه، وليست مصحفة كم زعم بعضهم لموافقة رواية حميد المذكورة لها، وإنما هي مفسرة لمحل الخدش من الشق الأيمن لأن الخدش لم يستوعبه‏.‏

وحاصل ما في القصة أن عائشة أبهمت الشكوى، وبين جابر وأنس السبب وهو السقوط عن الفرس، وعين جابر العلة في الصلاة قاعدا وهي انفكاك القدم، وأفاد ابن حبان أن هذا القصة كانت في ذي الحجة سنة خمس من الهجرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وصلى وراءه قوم قياما‏)‏ ولمسلم من رواية عبدة عن هشام ‏"‏ فدخل عليه ناس من أصحابه يعودونه ‏"‏ الحديث، وقد سمى منهم في الأحاديث أنس كما في الحديث الذي بعده عند الإسماعيلي، وجابر كما تقدم، وأبو بكر كما في حديث جابر، وعمر كما في رواية الحسن مرسلا عند عبد الرزاق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأشار إليهم‏)‏ كذا للأكثر هنا من الإشارة، وكذا لجميعهم في الطب من رواية يحيى القطان عن هشام، ووقع هنا للحموي ‏"‏ فأشار عليهم ‏"‏ من المشورة، والأول أصح فقد رواه أبوب عن هشام بلفظ ‏"‏ فأومأ إليهم ‏"‏ ورواه عبد الرزاق عن معمر عن هشام بلفظ ‏"‏ فأخلف بيده يومئ بها إليهم ‏"‏ وفي مرسل الحسن ‏"‏ ولم يبلغ بها الغاية‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إنما جعل الإمام ليؤتم به‏)‏ قال البيضاوي وغيره‏:‏ الائتمام الاقتداء والاتباع أي جعل الإمام إماما ليقتدى به ويتبع، ومن شأن التابع أن لا يسبق متبوعه ولا يساويه ولا يتقدم عليه في موقفه، بل يراقب أحواله ويأتي على أثره بنحو فعله، ومقتضى ذلك أن لا يخالفه في شيء من الأحوال‏.‏

وقال النووي وغيره‏:‏ متابعة الإمام واجبه في الأفعال الظاهرة، وقد نبه عليها في الحديث فذكر الركوع وغيره بخلاف النية فإنها لم تذكر وقد خرجت بدليل آخر، وكأنه يعني قصة معاذ الآتية‏.‏

ويمكن أن يستدل من هذا الحديث على عدم دخولها لأنه يقتضي الحصر في الاقتداء به في أفعاله لا في جميع أحواله كما لو كان محدثا أو حامل نجاسة فإن الصلاة خلفه تصح لم يعلم حاله على الصحيح عند العلماء، ثم مع وجوب المتابعة ليس بشيء منها شرطا في صحة القدوة إلا تكبيرة الإحرام، واختلف في الائتمام والمشهور عند المالكية اشتراطه مع الإحرام والقيام من التشهد الأول، وخالف الحنفية فقالوا‏:‏ تكفي المقارنة، قالوا لأن معنى الائتمام الامتثال ومن فعل مثل فعل إمامه عد ممتثلا، وسيأتي بعد باب الدليل على تحريم التقدم على الإمام في الأركان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإذا ركع فاركعوا‏)‏ قال ابن المنير‏:‏ مقتضاه أن ركوع المأموم يكون بعد ركوع الإمام إما بعد تمام انحنائه وإما أن يسبقه الإمام بأوله فيشرع فيه بعد أن يشرع، قال‏:‏ وحديث أنس أتم من حديث عائشة لأنه زاد فيه المتابعة في القول أيضا‏.‏

قلت‏:‏ قد وقعت الزيادة المذكورة وهي قوله‏:‏ ‏"‏ وإذا قال سمع الله لمن حمده ‏"‏ في حديث عائشة أيضا، ووقع في رواية الليث عن الزهري عن أنس زيادة أخرى في الأقوال وهي قوله في أوله ‏"‏ فإذا كبر فكبروا ‏"‏ وسيأتي في ‏"‏ باب إيجاب التكبير ‏"‏ وكذا فيه من رواية الأعرج عن أبي هريرة، وزاد في رواية عبدة عن هشام في الطب ‏"‏ وإذا رفع فارفعوا، وإذا سجد فاسجدوا ‏"‏ وهو يتناول الرفع من الركوع والرفع من السجود وجميع السجدات، وكذا وردت زيادة ذلك في حديث أنس الذي في الباب، وقد وافق عائشة وأنسا وجابرا على رواية هذا الحديث دون القصة التي في أوله أبو هريرة، وله طرق عنه عند مسلم منها ما اتفق عليه الشيخان من رواية همام عنه كما سيأتي في ‏"‏ باب إقامة الصف ‏"‏ وفيه جميع ما ذكر في حديث عائشة وحديث أنس بالزيادة، وزاد أيضا بعد قوله ليؤتم به‏:‏ ‏"‏ لا فلا تختلفوا عليه ‏"‏ ولم يذكرها المصنف في رواية أبي الزناد عن الأعرج عنه من طريق شعيب عن أبي الزناد في ‏"‏ باب إيجاب التكبير ‏"‏ لكن ذكرها السراج والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في المستخرج عنه من طريق أبي اليمان شيخ البخاري فيه وأبو عوانة من رواية بشر بن شعيب عن أبيه شيخ أبي اليمان ومسلم من رواية مغيرة بن عبد الرحمن والإسماعيلي من رواية مالك وورقاء كلهم عن أبي الزناد شيخ شعيب‏.‏

وأفادت هذه الزيادة أن الأمر بالاتباع يعم جميع المأمومين ولا يكفي في تحصيل الائتمام اتباع بعض دون بعض، ولمسلم من رواية الأعمش عن أبي صالح عنه ‏"‏ لا تبادروا الإمام، إذا كبر فكبروا ‏"‏ الحديث، زاد أبو داود من رواية مصعب بن محمد عن أبي صالح ‏"‏ ولا تركعوا حتى يركع ولا تسجدوا حتى يسجد ‏"‏ وهي زيادة حسنة تنفي احتمال إرادة المقارنة من قوله إذا كبر فكبروا‏.‏

‏(‏فائدة‏)‏ ‏:‏ جزم ابن بطال ومن تبعه حتى ابن دقيق العيد أن الفاء في قوله‏:‏ ‏"‏ فكبروا ‏"‏ للتعقيب، قالوا ومقتضاه الأمر بأن أفعال المأموم تقع عقب فعل الإمام، لكن تعقب بأن الفاء التي للتعقيب هي العاطفة، وأما التي هنا فهي للربط فقط لأنها وقعت جوابا للشرط، فعلى هذا لا تقتضي تأخر أفعال المأموم عن الإمام إلا على القول بتقدم الشرط على الجزاء، وقد قال قوم إن الجزاء يكون مع الشرط، فعلى هذا لا تنفي المقارنة، لكن رواية أبي داود هذه صريحة في انتقاء التقدم والمقارنة والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ فَرَسًا فَصُرِعَ عَنْهُ فَجُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ فَصَلَّى صَلَاةً مِنْ الصَّلَوَاتِ وَهُوَ قَاعِدٌ فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ وَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ الْحُمَيْدِيُّ قَوْلُهُ إِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا هُوَ فِي مَرَضِهِ الْقَدِيمِ ثُمَّ صَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا وَالنَّاسُ خَلْفَهُ قِيَامًا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْقُعُودِ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْآخِرِ فَالْآخِرِ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقولوا ربنا ولك الحمد‏)‏ كذا لجميع الرواة في حديث عائشة بإثبات الواو، وكذا لهم في حديث أبي هريرة وأنس إلا في رواية الليث عن الزهري في ‏"‏ باب إيجاب التكبير ‏"‏ فللكشميهني بحذف الواو ورجح إثبات الواو بأن فيها معنى زائدا لكونها عاطفة على محذوف تقديره ربنا استجب أو ربنا أطعناك ولك الحمد فيشتمل على الدعاء والثناء معا، ورجح قوم حذفها لأن الأصل عدم التقدير فتكون عاطفة على كلام غير تام، والأول أوجه كما قال ابن دقيق العيد‏.‏

وقال النووي‏:‏ ثبتت الرواية بإثبات الواو وحذفها، والوجهان جائزان بغير ترجيح، وسيأتي في أبواب صفة الصلاة الكلام على زيادة ‏"‏ اللهم ‏"‏ قبلها، ونقل عياض عن القاضي عبد الوهاب أنه استدل به على أن الإمام يقتصر على قوله ‏"‏ سمع الله لمن حمده ‏"‏ وأن المأموم يقتصر على قوله ‏"‏ ربنا ولك الحمد ‏"‏ وليس في السياق ما يقتضي المنع من ذلك لأن السكوت عن الشيء لا يقتضي ترك فعله، نعم مقتضاه أن المأموم يقول ‏"‏ ربنا لك الحمد ‏"‏ عقب قول الإمام ‏"‏ سمع الله لمن حمده ‏"‏ فأما منع الإمام من قول ربنا ولك الحمد فليس بشيء لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بينهما كما سيأتي في ‏"‏ باب ما يقول عند رفع رأسه من الركوع ‏"‏ ويأتي باقي الكلام عليه هناك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أنس‏)‏ في رواية شعيب عن الزهري ‏"‏ أخبرني أنس‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فصلى صلاة من الصلوات‏)‏ في رواية سفيان عن الزهري ‏"‏ فحضرت الصلاة ‏"‏ وكذا في رواية حميد عن أنس عند الإسماعيلي، قال القرطبي‏:‏ اللام للعهد ظاهرا، والمراد الفرض، لأنها التي عرف من عادتهم أنهم يجتمعون لها بخلاف النافلة‏.‏

وحكى عياض عن ابن القاسم أنها كانت نفلا، وتعقب بأن في رواية جابر عند ابن خزيمة وأبي داود الجزم بأنها فرض كما سيأتي، لكن لم أقف على تعيينها، إلا أن في حديث أنس ‏"‏ فصلى بنا يومئذ ‏"‏ فكأنها نهارية، الظهر أو العصر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فصلينا وراءه قعودا‏)‏ ظاهره يخالف حديث عائشة، والجمع بينهما أن في رواية أنس هذه اختصارا، وكأنه اقتصر على ما آل إليه الحال بعد أمره لهم الجلوس، وقد تقدم في ‏"‏ باب الصلاة في السطوح ‏"‏ من رواية حميد عن أنس بلفظ ‏"‏ فصلى بهم جالسا وهم قيام، فلما سلم قال‏:‏ إنما جعل الإمام ‏"‏ وفيها أيضا اختصار لأنه لم يذكر فيه قوله لهم ‏"‏ اجلسوا‏"‏، والجمع بينهما أنهم ابتدؤوا الصلاة قياما فأومأ إليهم بأن يقعدوا فقعدوا، فنقل كل من الزهري وحميد أحد الأمرين، وجمعتهما عائشة، وكذا جمعهما جابر عند مسلم، وجمع القرطبي بين الحديثين باحتمال أن يكون بعضهم قعد من أول الحال وهو الذي حكاه أنس، وبعضهم قام حتى أشار إليه بالجلوس وهذا الذي حكته عائشة‏.‏

وتعقب باستبعاد قعود بعضهم بغير إذنه صلى الله عليه وسلم لأنه يستلزم النسخ بالاجتهاد لأن فرض القادر في الأصل القيام‏.‏

وجمع آخرون بينهما باحتمال تعدد الواقعة وفيه بعد، لأن حديث أنس إن كانت القصة فيه سابقة لزم منه ما ذكرنا من النسخ بالاجتهاد، وإن كانت متأخرة لم يحتج إلى إعادة قول ‏"‏ إنما جعل الإمام ليؤتم به الخ ‏"‏ لأنهم قد امتثلوا أمره السابق وصلوا قعودا لكونه قاعدا‏.‏

‏(‏فائدة‏)‏ ‏:‏ وقع في رواية جابر عند أبي داود أنهم دخلوا يعودونه مرتين فصلى بهم فيهما، لكن بين أن الأولى كانت نافلة وأقرهم على القيام وهو جالس، والثانية كانت فريضة وابتدؤوا قياما فأشار إليهم بالجلوس‏.‏

وفي رواية بشر عن حميد عن أنس عند الإسماعيلي نحوه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإذا صلى جالسا‏)‏ استدل به على صحة إمامة الجالس كما تقدم‏.‏

وادعى بعضهم أن المراد بالأمر أن يقتدي به في جلوسه في التشهد وبين السجدتين، لأنه ذكر ذلك عقب ذكر الركوع والرفع منه والسجود، قال‏:‏ فيحمل على أنه لما جلس للتشهد قاموا تعظيما له فأمرهم بالجلوس تواضعا، وقد نبه على ذلك بقوله في حديث جابر ‏"‏ إن كدتم أن تفعلوا فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا ‏"‏ وتعقبه ابن دقيق العيد وغيره بالاستبعاد، وبأن سياق طرق الحديث تأباه، وبأنه لو كان المراد الأمر بالجلوس في الركن لقال وإذا جلس فاجلسوا ليناسب قوله وإذا سجد فاسجدوا، فلما عدل على ذلك إلى قوله ‏"‏ وإذا صلى جالسا ‏"‏ كان كقوله وإذا صلى قائما، فالمراد بذلك جميع الصلاة‏.‏

ويؤيد ذلك قول أنس ‏"‏ فصلينا وراءه قعودا‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أجمعون‏)‏ كذا في جميع الطرق في الصحيحين بالواو، إلا أن الرواة اختلفوا في رواية همام عن أبي هريرة كما سيأتي في ‏"‏ باب إقامة الصف ‏"‏ فقال بعضهم ‏"‏ أجمعين ‏"‏ بالياء والأول تأكيد لضمير الفاعل في قوله ‏"‏ صلوا‏"‏، وأخطأ من ضعفه فإن المعنى عليه، والثاني نصب على الحال أي جلوسا مجتمعين، أو على التأكيد لضمير مقدر منصوب كأنه قال‏:‏ أعنيكم أجمعين‏.‏

وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم مشروعية ركوب الخيل والتدرب على أخلاقها والتأسي لمن يحصل له سقوط ونحوه بما اتفق للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة وبه الأسوة الحسنة‏.‏

وفيه أنه يجوز عليه صلى الله عليه وسلم ما يجوز على البشر من الأسقام ونحوها من غير نقص في مقداره بذلك، بل ليزداد قدره رفعة ومنصبه جلالة‏.‏